بعد هلاك قوم لوط، عاش بعدهم بزمن قصير قوم من العرب في قرية اسمها مدين، كانت تعبد الله عز وجل زمنا، حتى بدأ ينتشر فيها الشرك عن طريق شجرة اسمها شجرة الأيكة. في البداية كان أهل مدين يتبركون بها شيئاً فشيئاً حتى عبدوها من دون الله، وهذه الشجرة كانت كبيرة جدا، وكثيرة الأغصان، وغزيرة الأوراق، ومعمرة. في قصة اليوم سنتعرف على قصة شعيب عليه السلام، والتي تعتبر من أشهر قصص الأنبياء التي لا تخلوا من الصبر، ونعرف السبب الذي جعل قوم مدين يعبدون شجرة الأيكة.
قصة أصحاب الأيكة (قوم مدين) مع شعيب عليه السلام
كانت بداية قصة شعيب عليه السلام مع شجرة كبيرة عظيمة الأغصان، تبرك قوم مدين بها فترة من الزمن حتى أغراهم الشيطان فعبدوها من دون الله، اسمها شجرة الأيكة، ولهذا سماهم الله أهل الأيكة على اسم هذه الشجرة.
لم يكتف القوم بذلك بل بنو حولها أصنام وعبدوها من دون الله. وهؤلاء القوم كانوا قلة قليلة في الأرض فصاروا أمة كبيرة في العدد وكثرهم الله عز وجل، وكانوا فقراء فأنزل الله عليهم الخيرات وأصبحوا أغنياء كانوا ضعفاء فصيرهم الله أقوياء.
حياة القوم في مدين وظلمهم في الميزان
لكن هل شكروا نعمة الله؟ أبداً، فقد استغلوا موقعهم بين الشام والحجاز ومصر، حيث كان كل التجار والقوافل تمر عليهم. قطعوا عليهم الطريق، وقعدوا عند كل صراط وطريق يقطعونه ويمنعون الناس إما تدفعون أو لا تمرون، جعلوا الضرائب والمكوس والأموال غصباً أخذوها من القوافل والتجار.
لم يكتف أهل مدين بذلك! حيث كان الناس ينزلون عندهم يبيعون ويشترون فبدأوا بالغش في التجارة، وبدأوا يطففون في الميزان وبدأوا يخدعون الناس في بادئ الأمر حتى وصل بهم الحال إلى المجاهرة، فلقد أصبحوا يأخذون منهم البضاعة كاملة ويعطونهم ثمن بخس أقل من قيمتها.
لم يجرؤ أحد على معارضتهم أو الجدال معهم، فلقد كانوا يعرفون أن هذه طريقهم، وهم قوم مفسدون.
شعيب يدعو قومه إلى عبادة الله والعدل في التجارة
استمر أهل مدين في طغيانهم حتى أرسل الله إليهم نبياً منهم، كان شاباً صالحاً نجاه الله من شركهم ومن عباداتهم ومن خبثهم ومكرهم وخداعهم وجشعهم، وهذا النبي كان فصيحاً بليغاً حتى سمي خطيب الأنبياء، إنه شعيب عليه السلام.
۞ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84) سورة هود.
كانت مدين مركزاً تجارياً مالياً، التجار كلها تعرف أرض مدين، وإذا أردت أن تمر تجارة إلى الشام أو الجزيرة أو لمصر فليس عندك من طريق إلآ طرق مدين، وفي هذه الحالة يأخذون جزءاً من أموال التجار غصباً.
حتى إن أحدهم كان إذا مر من التجار وأخذ القوم أمواله يذهب إلى شعيب عليه السلام ويقولوا له: يا شعيب إن قومك أخذوا أموالنا وأخذوا بضاعتنا ولم يوفوا حقنا.
فيذهب شعيب عليه السلام إلى قومه ويقول لهم: يا قومي لا تنقصوا المكيال ولا الميزان فإني أراكم في نعم الله، ماذا تريدون أكثر من ذلك! هذه الأنهار وهذه الجنات وهذه الزروع وهذه الأموال، لماذا الطمع أكثر من هذا.
لا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين، وأنا لن أحفظكم إذا نزل عذاب الله، ولن أستمر في مراقبتكم.
عناد أهل مدين لدعوة شعيب عليه السلام
لم يستمع القوم إلى كلام شعيب عليه السلام، واستمروا على هذا الخبث، والفجور والظلم، وقطعوا طريقين هما؛ طريق التجارة التي قطعوها على الناس وأخذوا أموالهم بغير حق، وقطعوا صراط الناس إلى الله.
كان شعيب عليه السلام يخطب فيهم، وينصحهم، ويذكرهم بالله عز وجل، ولكن القوم في صدود بسبب انشغالهم بجمع الأموال. لم يكتف القوم بفعلتهم، فلقد قيل أنهم ازدادوا في أخذ أموال الناس، والصد عن سبيل الله، وقطع الطريق، وسرقة الأموال، فزادهم الله فضلاً وخيراً، ليفتنهم الرب عز وجل.
استمر شعيب عليه السلام سنوات طوال، يدعوا قومه إلى الله وتوحيده، وينهاهم عن هذه المعاملات التجارية المحرمة، وعن قطع الطريق على الناس، وأخذ أموالهم بغير حق، ولم يؤمن مع شعيب إلا القليل.
في يوم من الأيام جاءه كبار التجار وقالوا له: يا شعيب تزعم أنك نبي مرسل من الله، وتتكلم عن الأموال والتجارة والبيع، فما هو دخل الدين بالتجارة؟ يا شعيب هل دينك يأمرنا أن نترك ما كان يعبد آباؤنا وأجدادنا من قبل "شجرة الأيكة" فأمولانا وألهتنا خط أحمر لا يجب المرور به.
رد عليهم شعيب عليه السلام ببلاغة: فلنفترض أني أنا على حق ورزقني ربي بهذه الرسالة، وهل رأيتموني من قبل أنهاكم عن شيء وأفعله؟ وهل رأيتموني من قبل أمركم بشيء ولا أفعله؟ ما أريد إلا الإصلاح ما استطعت، كل هدفي في هذه القرية أو في هذه المدينة أن أصلح فقط. وما توفيقي إلا بالله، أنا أستعين بالله ولا أنتظر منكم مكافأة أو مالاً، فأجرى على الله.
استهزاء قوم مدين برجل حكيم بينهم
بدأ شعيب عليه السلام يرفع من مستوى الخطاب مع قومه، فقال لهم: يا قومي إني أخاف عليكم أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح. والناس كانت تعرف ما حصل في قصة نوح وكيف أغرقهم الله بالطوفان، وقوم هود وكيف أهلكهم الله بالريح، أو قوم صالح، والذين أهلكهم الله بالصاعقة. وقوم لوط ليس عنكم ببعيد.
وأكمل شعيب عليه السلام حديثه مع قومه: يا قومي استغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود، فوضعهم بين الترهيب من عقاب الله، والترغيب في رحمة الله عز وجل.
رد أهل مدين على شعيب عليه السلام برد غريب، فقالوا له: يا شعيب لا نفقه كثيرا مما تقول، والغريب هنا أنه أكثر الناس فصاحة وبلاغة، وحسن بيان.
تحذيرات شعيب من عذاب الله القادم لأهل مدين
لم يكتف أهل مدين بشركهم وعنادهم، بل بدأ يهددون شعيب والذين آمنوا، فلقد قالوا له: يا شعيب إنا لنراك فينا ضعيفا ولولا قبيلتك التي تنتمي إليها، وكانوا مشركين مثلهم لرجمناك.
رد عليهم نبي الله شعيب عليه السلام: يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله. من المفترض أن تقولوا لولا رب العالمين لرجمناك، ولكنكم جعلتم قبيلتي ندا لله. إن الله هو أحق بخشيتكم، فلقد أهلك أمم قبلكم، إن شاء غفر لكم وإن شاء عذبكم.
كان شعيب عليه السلام يتجول في الأسواق، ويرى بعينه الناس تغش في الموازين، وتأخذ أموال الناس بالباطل. ليصبح القوم منهمكين بصراع الدنيا، فكان الشرك من جهة، والتلاعب بالأموال من جهة، وأخذ أموال الناس ظلما من جهة.
بالرغم من كل ذلك كان شعيب عليه السلام ينصح قوم مدين ويذكرهم، فيقول لهم: اصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ۖ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) سورة هود.
عد إلى ملتنا أو أخرج من قريتنا
في يوم من الأيام اجتمع عَلَيْت القوم من أصحاب الأموال الأغنياء الأثرياء المستكبرين، فقالوا له: يا شعيب أنت وهذه القلة الذين آمنوا معك، إما أن ترجعوا إلى ديننا، وتعبدون عباداتنا مرة ثانية، وتفعلون مثلنا، وتستمعون لأوامرنا وتقولون سمعا وطاعة لنا، أو لنطردنكم من قريتنا.
۞ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ۚ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۚ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ۚ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) سورة الأعراف.
لم يكن قوم شعيب عليه السلام هم أول من اتبع هذا الأسلوب مع الأنبياء، فلقد فعلها كثير من أقوام الأنبياء وهددوهم بالقتل أو الرجوع أو الخروج من أرض الله. قال لهم شعيب عليه السلام: حتى ولو كنا كارهين لذلك ستجبروننا نعبد هذه العبادة؟.
إصرار القوم على الظلم ورفضهم الدعوة
بعد أن مضت سنوات من الدعوة إلى الله تعالى، لم يستجيب أهل مدين لنبيهم، فبدأوا يهددون شعيب والذين آمنوا به، وبدأ شعيب عليه السلام يدعو ربه على قومه ويهددهم. وبدأ الملأ يمشون بين أهل الإيمان ويحاولون أن يضلوهم، فيقولون لهم: لاين اتبعتم شعيباً إنكم إذا ستكونون خاسرين.
وفي أحد الأيام جاء أهل مدين إلى شعيب ثم قالوا له: يا شعيب تهددنا بعذاب ربك ماذا تنتظر أنت وربك؟ هيا أسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصادقين. بالرغم من كل ذلك صبر شعيب عليه السلام على قومه الذين استعجلوا. مرت الأيام وهم يتوعدون شعيب ويسخرون منه، وهم مطمئنون أنه لا يوجد عذاب، حتى جاء اليوم الموعود.
قصة عذاب يوم الظلة
بدأ عذاب يوم الظلة، وفي يوم من الأيام اشتد الحر على قوم شعيب، وحدث جفاف مفاجئ والشمس محرقة من شدة وهجها، وكلما حاول القوم أن يستظلون بظل ما كان ذلك الظل حاراً أيضا. ببساطة، لم يكن هناك مكان يخلو من الحرارة المحرقة.
ظل الأمر على حاله حرارة وجفافاً، حتى رأوا من بعيد مثل غيمة سوداء تحتها ظل، ذهب أحدهم ليستظل تحت ظل هذه الغيمة فوجد الجو بارداً، فنادى قومه قائلا لهم: تعالوا يا قوم، وجدت مكاناً بارداً تحت هذا الغيمة، أسرع قوم مدين عن بكرة أبيهم، خرج الرجال، والنساء، والأولاد، والصبيان، والشيوخ، والعجائز، كلهم تركوا البيوت وذهبوا تحت الظل.
نجاة شعيب والمؤمنين معه برحمة الله
نادي شعيب أهل الإيمان وحذرهم من الذهاب تحت هذه الغيمة. فجأة بدأت الأرض ترجف من تحتهم، وفجأة جاءت صيحة فأهلكتهم كلهم عن بكرة أبيهم. أمة كاملة تجمعوا كلهم في مكان جاءوا لحتفهم، وقد سمى الله تعالى هذا اليوم بيوم الظلة، فكان هذا يوم العذاب ويوم الهلاك لأهل مدين.
ثم دخل شعيب عليه السلام والقلة القليلة من أهل الإيمان إلى المدينة، والتي كانت خالية من البشر، كأن لم يغنوا فيها، المدينة خلت من كل أهل الكفر، لا يوجد إلا جثث ملقاة تحت تلك الظلة. بعد هلاك أهل مدين، ذهب إليهم شعيب عليه السلام وأخذ يكلمهم وهم جثث، ولكنهم كانوا يسمعونه! فقال لهم: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي، يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم فكيف أحزن على قوم كافرين. فلقد كفرتم بالله واستعجلتم عذابه فجاءكم العذاب.